نشر: 08/04/2005 |
استطيع ان انطلق بالسيارة من بيتنا في مدينة المفرق الى الشرق لأكون بعد ربع ساعة في بلدة (ام الجمال) التي يرجح ان تاريخها يعود الى الحضارة النبطية العربية ما قبل الاسلام, ولأكون في الوقت ذاته, في ارض قبائل (اهل الجبل) الذين لهم امتداد طبيعي في جنوب سورية(محيط جبل الدروز تحديدا) يمكن للمرء ان يرى كيف بنى الاهلون, مع استيطانهم نهائيا في ذلك المكان, من حجارة الاثار النبطية (وهي حجارة بازلتية سوداء) بيوتهم, ويمكن له ان يرى بيوتات الوجهاء، خصوصا،مبنية من حجارة نحتها النبطيون قبل نحو ألفي عام... ولن يستغرب ان يرى كتابة نبطية ورومانية لا احد من الاهلين يعرف معناها, متداخلية مع كتابات نقشت لاحقا مثل (هذا من فضل ربي) في حجارة بيوتهم!
ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة في اكثر من موقع اثري اردني قام الى جواره تجمع بشري وتبدو هذه الظاهرة اوضح ما يكون في مدينة جرش الجديدة التي افاد الاهلون من حجارة الموقع الاثري في بناء بيوتهم!
المنظر الابرز الذي يستحوذ، كليا على نظر زائر منطقة (ام الجمال) الى جانب اطلال المدينة النبطية القديمة التي لم يعد قائما منها بناء يعتد به بسبب الزلازل التي ضربتها, هو ذلك المسطح البركاني الاسود الممتد داخل الحدود السعودية المسمى (الحرة).
مرآة حجرية سوداء هائلة تعكس، صيفا، شمسا اخرى اشد ضراوة من الشمس نفسها التي تقف عمودية فوق الرؤوس..
إنها قطعة من الجحيم, مئات من الاميال مغطاة بطبقة صلبة من فيض بركاني قذفته احشاء الارض في احدى سورات غضبها او تقلبها وصنعت وجها قاسيا متشققا لهذه الارض التي لا تحتاج الى قسوة اضافية, انه وجه يشبه وجه البداوة نفسها, حيث القسوة وسم ظاهر.
لقد جذبتني اليها هذه القسوة التي تصادت, على الاغلب, مع قسوة في نفسي
فأنا ايضا انحدر من عائلة بدوية, وكانت القسوة التي ظلت تنسحب تدريجا مع تمديننا, من شروط حياتي الاولى بل هي وسم طفولتي الذي لم يمح مع مرور السنين.
كنت, في كل مرة اعود فيها الى المفرق, اطلب من اخي الاصغر (احمد) وهو اكثر بداوة وقسوة في الملامح مني, ان نذهب الى (الحرة) التي تبعد نحو عشرة اميال عن حينا في (المفرق).
يسوق اخي احمد سيارة والدي (الاوبل) القديمة مرة, او (المرسيدس) القديمة ايضا مرة اخرى الى ذلك المسطح الجهنمي الاسود.
نوقف السيارة عند طرف (الحرة) مع الغروب لنتفادى الحرارة المضاعفة التي تعكسها هذا المنصة البركانية التي تمتد على مدى النظر, يستغرب الرعاة العائدون بقطعانهم من نهار طويل وقوف هذين الشخصين اللذين يرتديان الجينز و"التي شيرت "امام مصطبة الحجارة السوداء.
ينظرون الينا بفضول وربما بتشكك, كما هي حال البدوي الذي لا يطمئن الى (الطارش). قد يظنون اننا مهندسان نمسح المكان بأعيننا التي ما زالت تغالب اشعة الشمس القاسية المتلكئة عند الافق. ولكن اي مهندسين هذين اللذين لا يحملان عدة المسح معهما؟
لا يسألون.
يمضون وراء الغبار الخفيف الذي يثيره القطيع, ولكنهم يتلفتون الى الوراء بين لحظة واخرى, ونحن بدورنا لا نهتم لهذا الفضول المؤقت الذي استولى عليهم, بل نواصل ابحارنا في هذا المدى الاسود الذي يكاد يصبح كحليا مع غروب الشمس.
وقد وجدت, وانا اقلب ديوان الاعشى الكبير ميمون بن قيس, وهو احد الكتب القليلة المتبقية من اول مكتبة لي في الاردن, شيئا عن (الحرة) عنده..
فكأنها هي المقصودة بقول الاعشى:
ووديقة شــهباء رد اكمها بسرابها
حتى اذا ما اوقدت فالجمر مثل ترابها
ويبدو ان (الحرة) شغلتني حتى رحت ابحث عن ذكر لها في المصادر الجغرافية والادبية العربية, فوجدت ذكرا لها ولأخواتها في المدى الممتد داخل الاراضي التي تقع في ما يعرف اليوم بـ(السعودية) في أ كثر من مصدر.
ليس هناك (حرة) واحدة هي التي نعرفها في الاردن بل ان هناك (حرات) كثرا احصى منها ياقوت الحموي صاحب (معجم البلدان) 29 حرة. يعرف ياقوت (الحرة) كالتالي" ارض ذات حجارة سود نخرة كأنها احرقت بالنار", وحرتنا الاردنية هي اول (الحرات) العربية التي تمتد من اطراف حوران وصولا الى (المدينة المنورة).
كما ترد هذه (الحرات) في ايام العرب, ومنها "حرة تبوك" و"حرة تقدة" و"حرة حقل" و"حرة الحمارة" و"حرة راجل" ولعل هذه الاخيرة التي يذكرها ياقوت هي الحرة الاردنية اذ انها تقع حسب وصفه بين" السر" و"مشارف حوران".
ويكفي ليعرف المرء اهمية هذه البلدة في تجارة الصحراء منذ العهود ما قبل الرومانية ان يتمعن في اسمها: ام الجمال, فيقال انها كانت محطة كبرى للقوافل التي كانت تستخدم الابل في الازمنة القديمة... بينما يجادل اخرون بأن الاسم حديث يحيل الى (الجمال) وليس (الجِمال).
واي يكن من امر هذه التسمية فإن هذه الحلقة المهملة من اول حضارة عربية قبل اسلامية اقيمت في الصحراء هي دليل على ان البادية الاردنية لم تكن صحراء بلقعا كما هي عليه صحارى الجزيرة العربية, بل تمكنت من ان تستقطب اشكال حياة كان بعضها ذا مستوى حضاري عال, ويمكن لبعض الروايات التاريخية ان يقول لك انها لم تشهد حضارة مزدهرة وانما كانت ثغورا لصد غزوات البدو عن (الحضارة الحقيقية) في المدن المعروفة يومذاك: بصرى الشام, دمشق, جدارا, فيلادلفيا, جرش.... الخ, فـ (ام الجمال) كانت جزءا من خط التجارة الدولي الذي خطه الانباط واقاموا على مفاصل حساسة منه مجموعة من المدن والمحميات امتدت حتى منطقة البقاع في لبنان شمالا وحتى صحراء سيناء والخليج العربي جنوبا مرورا بطبيعة الحال بعاصمتهم (البتراء) المدينة الاكثر تطورا من سائر مدنهم الاخرى ومحمياتهم وقد سمي هذ الخط "طريق الملوك" او بتسمية اخرى" الطريق السلطاني", كما ان ام الجمال اصبحت في طور لاحق جزء مهما من خط الدفاع عن ممتلكات روما العربية بعد ان استولى الرومان عليها من الاغريق (السلوقيين, البطالمة) وهي تبعد نحو ستة كيلو مترات عن "طريق تراجان" الجديد الذي يربط بين ممتلكات روما العربية الشمالية والجنوبية.
هل تخطر الصين في بال من يعبر هذه الطريق التي كانت مرصوفة بالحجارة ذات يوم وابتلعتها الصحراء مرة اخرى؟ هذا ما خطر في بال صديقي الشاعر الصيني المقيم في لندن يانغ ليان الذي صحبته في زيارة الى الاردن مع زوجته الروائية يويو.
فقد قال لي يانغ ليان مشدوها, بعد ان قرأ في بعض الادبيات السياحية شيئا عن (طريق الملوك):
تخيل ان هذه الطريق كانت تؤدي الى الصين؟
كانت تلك ربما اول عولمة في تاريخ البشرية اضاف ليان.
ولعل الشاعر الصيني المنفي الذي كاد ان يرى الصين من" ام الجمال" لم يجانب الصواب.
فالمروريات حول الانباط تفيد انهم سيطروا على طرق القوافل التجارية التي كانت تصل بين الحواضر السورية واللبنانية ومصر عبر سيناء من جهة, وتلك التي تؤدي الى الهند والصين من خلال الخليج العربي من جهة ثانية.
وكل هذه القوافل المتجهة شمالا وجنوبا رابطة اطراف العالم القديم بعضه ببعض كانت تمر من ام الجمال التي تبدو في صورتها الحالية, الموقع الاثري الاردني الاكثر تضررا واهمالا.
من هذه البلدة التي لا تعدو كونها الان كومة من الحجارة السود كانت تمر تجارة التوابل والعطور والاقمشة من الهند والصين واليمن وعمان في طريقها الى اوروبا.
ام الجمال التي تقابلها على الجهة الاخرى من الحدود الاردنية السورية مدينة السويداء عاصمة "جبل العرب" ذي الاغلبية الدرزية ومدينة بصرى بالقرب منها, تقطنها حاليا عشائر" اهل الجبل" الذين تحدروا على الاغلب من منطقة جبل العرب او جبل الدروز في تسمية اخرى, وهذا يفسر برأيي الاسم الذي يطلق على مجموع عشائرهم وان كان لكل عشيرة منها اسمها الخاص بها مثل: العظامات, الشرفات, الزبيد, المساعيد, اما الدروز فيبدو انهم هاجروا الى تلك المنطقة بعد الاضطرابات التي وقعت بينهم والموارنة في جبل لبنان في الربع الاخير من القرن التاسع عشر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق