نشر: 13/05/2005 |
إبراهيم غرايبة
تبدو المفرق لمن لا يعرفها، وكما يوحي اسمها، المكان الذي تتفرع منه الطرق، وبما أن مدينة المفرق واقعة في مركز الطرق إلى العراق والسعودية وسورية، فربما كانت هذه دلالة اسمها، ولكن عندما تزورها ستجدها أكثر بكثير من امتداد صحراوي، ومركز للطرق الدولية وطرق القوافل القديمة، فالمحافظة التي تضم مدينة المفرق ومجموعة من البلدات والتجمعات السكانية والمواقع الأثرية والتاريخية، مثل الفدين، وأم الجمال، والطرق التجارية القديمة، والبرك تكاد تكون متحفا يحتوي منجزات الحضارة الإنسانية منذ نشوئها، أو كتابا مفتوحا يرى الزائر على صفحاته قصة الحضارة والفن الإنساني، ورحلة التفاؤل الدؤوب عبر الزمن.
تقع محافظة المفرق في الجهة الشمالية الشرقية من الأردن، وتبعد مدينة المفرق مسافة "72" كم عن إلى الشمال من عمان العاصمة، ويمكن الوصول إليها عبر طريقين، إحداهما من عمان باتجاه الزرقاء، ومن ثم عبر الطريق الدولي السريع، مرورا بثغرة الجب، وهي الاختيار الأسهل للزائر، والثانية عبر طريق عمان – إربد، مرورا بمدن صغيرة وبلدات، مثل: حوارة، والصريح وصولا إلى مدينة الرمثا الحدودية، ثم المضي شرقا عبر طريق بغداد الدولي، وهي طريق أطول، ولكنها أجمل.
كانت المفرق (الفدين) مركز أمويا مهما، وحول الخليفة الأموي الوليد الثاني قلعتها إلى قصر، وكان من الأماكن المفضلة له للإقامة، وشهدت المدينة ثورة أموية على العباسيين في عهد الخليفة العباسي المأمون بقيادة سعيد بن خالد الفديني، وقضي على الثورة الأموية بقيادة يحيى بن صالح عامل المأمون، ودمر القصر.
وقبل الأمويين كانت بموقعها الاستراتيجي وطبيعتها التي تتداخل فيها الصحراء مع الجبال وبيئة البحر المتوسط حلقة وصل حيوية في التقاء وتفاعل شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وبلاد الرافدين، فهي مفرق الطرق التجارية منذ زمن بعيد، وفيها يمر الطريق الروماني الذي يعبر المنطقة باتجاه الجنوب، وصولا إلى العقبة، والمسمى بالطريق التراجاني "الملوكي"، وفيها أيضا الطريق الروماني الذي كان يصل عبر وادي السرحان إلى شبه الجزيرة العربية، بالإضافة إلى الطرق الرومانية الفرعية، مثل طريق بصرى – الشام - جرش، وتلك الطرق نفسها التي كان العرب الأنباط يعتمدون عليها في توسيع حدود امبراطوريتهم في القرن الأول قبل الميلاد زمن الحارث الثالث، حتى وصلوا إلى دمشق باتجاه الشمال، وهي الطريق التي سلكها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شبابه حين عمل في التجارة، حيث التقى الراهب النسطوري بحيرى، وسلكها مرة أخرى بعد غزوة تبوك عام 9 هـ (631م)، وهكذا فإن الرسول قد عبر الأردن من شماله إلى جنوبه مرتين.
ولم تفقد الطرق أهميتها أبدا، ففي حلقة جديدة من التاريخ استخدم العرب المسلمون تلك الطرق بأسماء جديدة، فكانت طريق الحج الشامي، وطريق الحج الداخلي، المسمى طريق "البخور"، أو طريق الملح الواصل حتى وادي السرحان مرورا بالأزرق.
وبنيت في عام 1901 في عهد الدولة العثمانية في المفرق محطة رئيسة لخط السكة الحديد الحجازي، ومازالت منشآت المحطة والخط الحديدي معلما أثريا ومعماريا لا يمكن لزائر المفرق تجاوزها، ويبلغ عدد المنشآت المعمارية في المحطة خمسا إضافة إلى بئر للمياه، وبئر للمياه العادمة، ومصطبة تنزيل الركاب المحاذية لرصيف السكة، وتوجد أيضا حديقة مازالت تحتفط بالاسم التركي، وهو "باغجة".
ويتكون المبنى الأول من طابقين، والمبنى الرئيسي للمخطة وله بابان رئيسان، وكان يعتبر مكانا لإقامة ناظر المحطة وعائلته، وهو مبني من الحجارة الكلسية القاسية، ومقصور من الداخل بالبلاط المدعم برمل السير.
وأما المبنى الثاني فهو الحمامات،ويعتبر مكانا لراحة المسافرين، ويبعد عن المحطة من جهة الجنوب نحو ثمانية عشر مترا، ويمتد بمسافة "5 * 5.2 م" ويقسم إلى ثلاث غرف صغيرة.
والمنشأة الثالثة هي مصطبة ملاصقة لسكة الحديد لإنزال المسافرين والبضائع، وهي عبارة عن بناء من الحجر بارتفاع 120 سم وبطول: 20م، وتقع في أقصى الجهة الجنوبية للمحطة وعلى بعد 30م.
والمنشأة الرابعة هي المخفر، ويبعد عن المحطة الرئيسة من جهة الشمال نحو 33مترا، وهو بناء دائري يبلغ قطره نحو "5.4م" وله بوابة واحدة من جهة الجنوب.
وأما الحديقة فتمتد على طول خطة سكة الحديد الشرقية ما بين المخفر الدائري وبئر جمع المياه على طول 50م، وبعرض 20م.
ويوجد أيضا منزل شاويش المحطة، وهو بناء مستطيل الشكل بامتداد 17م من الشمال إلى الجنوب، وبعرض ستة أمتار.
ومن الكتابات العربية على قضبان المحطة عبارة: "من خيرات مولانا السلطان عبد الحميد خان، عز نصره"
وهكذا فسيجد الزائر للمفرق أنها لم تتوقف عن كونها ممرا دوليا مثلما كانت عبر التاريخ، فمن هنا تستطيع الذهاب إلى سورية عبر ممر حدود جابر، وإلى العراق عبر مركز حدود الكرامة، وإلى السعودية عبر مركز حدود العمري، وكانت المفرق قبل الحرب العالمية الأولى مركزا أساسيا من مراكز الخط الحديدي الحجازي الذي كان يربط الأردن مع سورية والسعودية.
وتمثل محافظة المفرق في طبيعتها الجغرافية مركز التقاء وافتراق بين امتداد السهل البازلتي لشبه الجزيرة العربية وسهول حوران الشامية والامتداد الطبيعي لجبال عجلون، وتتميز بادية المفرق بوجود القيعان والغدران الطبيعية، إضافة للأودية الخصبة، مثل مرب عروس والزعتري والعاقب، وغيرها، وهذا ما يفسر نشوء المجتمعات المحلية منذ العصور الحجرية حتى الوقت الحاضر دون انقطاع.
ويتراوح ارتفاع منطقة البادية الشرقية الشمالية ما بين 640م في وادي الزعتري حتى يبلغ أعلى ارتفاع له عند جبل تل الرماح ليبلغ "1250م" فوق مستوى سطح البحر، ومناخ المنطقة شبه صحراوي، وهو يتميز بصيف حار نهارا ومعتدل حار ليلا، ومعتدل في الشتاء والربيع، وهذا ما يفسر قيام حضارات شتوية ربيعية في المنطقة.
والغطاء النباتي هنا يعتبر ضعيفا، وتنبت في المنطقة شجيرات الرقم والعجرم والبطم واللوز البري والغار، وأما الأعشاب والحشائش فتنمو في الأودية والغدران، مثل القيصوم والشيح والزعتر البري والبوص،وهي تشكل أفضل المراعي للضأن، وتمنح لحمه مذاقا فريدا.
وأما المنطقة الغربية من محافظة المفرق فهي شبة زراعية، وتعتبر امتدادا لمنطقة عجلون، حيث نلحظ مرتفعات وهضابا تمتد من جبال عجلون حتى منطقة بلعما، ويتراوح ارتفاع هذه المنطقة بين "700 – 1024" فوق سطح البحر، وهي ترتفع تدريجيا كلما اتجه الزائر نحو الغرب.
وتشمل هذه المنطقة بيئتين نباتيتين، هما: مروج ونباتات البحر المتوسط، والمروج الانتقالية التي تكن المجموع الأكبر من مساحة المنطقة الغربية، حيث نرى تربة حمراء اللون، وتنمو فيها أشجار الصنوبر والبلوط، وزراعات حقلية مثل القمح والشعير، وأشجار مثمرة مثل العنب والزيتون والتين، وفيها عيون مياه كثيرة، مثل عيون خريسان والقنية التي تصب في وادي الزرقاء.
ولعل ذلك الترابط بين منطقتين، إحداهما شبه صحراوية والأخرى شبه زراعية أنشأ على مدى التاريخ نمطا من الحياة قائما على التنقل الدؤوب بين أماكن الكلأ والماء، ما بين جبل حوران وجبل الشيخ وعجلون صيفا وبين البادية شتاء وربيعا، وهو ما أدى إلى نشوء وتفعيل التجارة بين المفرق والمناطق الأخرى المجاورة، وإلى تعلم وممارسة الزراعة بين القبائل في المفرق، ويتضح ذلك من خلال الرسوم والنقوش الموجودة في وادي سلمى والحشاد ومحيط الأزرق وغيرها.
إن كثافة المواقع التاريخية في محافظة المفرق يجعل الزائر يحتاج يوما كاملا على الأقل للتجول في أرجائها، ولكن زيارة للتأمل والمعرفة تحتاج إلى يومين أو ثلاثة للاطلاع على نحو كاف على المواقع الأثرية المهمة في المحافظة.
وإذا سلك الزائر طريق بغداد الدولي القادم من مدينة إربد، مرورا بأراض الرمثا وامتداداتها فإن أول ما سيراه من المنطقة هو قرى وتجمعات سكنية مترامية الأطراف، مثل الأكيدر والمشيرفة والحرش وبريقا، حيث ستبدأ التربة تكتسب اللون الأصفر الصحراوي، وتزداد هذه الصفرة مع التقدم نحو المناطق الداخلية للصحراء الأردنية الشرقية، مع ملاحظة وجود مناطق تنبت فيها الأشجار والنباتات الصحراوية.
ولتسهيل التجوال في محافظة المفرق يمكن تقسيمها إلى ثلاثة مناطق، انطلاقا من مدينة المفرق، المنطقة الشمالية الشرقية، التي تبدأ بالزعتري مرورا بأم الجمال، ثم عمرة وعميرة ودير الكهف وجاوة حتى منطقة الرقبان على الحدود الشرقي المتصلة بالعراق.
والمنطقة الثانية تضم عددا من القرى والمواقع الأثرية، وهي باتجاه غرب مدينة المفرق، وتشمل حيان وبلعما وفاع وخربة السمرا ورحاب، وهي طريق تقترب في أقصاها إلى جبال عجلون من الناحية الغربية للمفرق، وتدنو من حدود جرش.
والمنطقة الثالثة هي شمال المفرق، وفيها عدد من المواقع والبلدات مثل سما السرحان ومغير السرحان.
وباتباع الخط الواصل من مدينة إربد سيمر الزائر تباعا، وبدءا بالأكيدر على مواقع مثل البويضة وحوشا والحمراء والتي تضم جملة من المكتشفات الأثرية، ولعل أهم تلك المواقع هو بلدة فاع، والتي تقع على بعد 22كم إلى الشمال الغربي من المفرق، وهي تقوم على طريق أثري يمتد من قرية دير ورق عبر الخناصري وحتى المنصورة وقرية الحمراء.
والموقع تل أثري دائري الشكل، وأكثر من نصف ارتفاعه صناعي، وتدل المكتشفات الأثرية أنه يعود للعصر البرونزي المتوسط، وفيه برك وجدران من الحجارة الكبيرة وأساسات لبيوت مستديرة، وهو يحظى بأهمية استراتيجية جعلته مأهولا حتى العصور الإسلامية.
وبالعودة عبر الطريق الفرعية إلى الطريق الرئيسي يمكن للزائر أن يواصل رحلته على طريق بغداد الدولي إلى مدينة المفرق، وهي حاضرة المحافظة ومركزها الرئيسي، وفيها سيزور مواقع أثرية مهما، وأهمها الفدين والخط الحديدي الحجازي اللذين سبق الحديث عنهما.
وبخروجنا من مدينة المفرق سيتفرع الطريق الرئيسي إلى اتجاهات عدة فيذهب الطريق الجنوبي باتجاه ثغرة الجب وخربة السمرا، والذي يتفرع أيضا باتجاه يسار السائق نحو الخالدية وقصر الحلابات، في حين يقودنا الطريق الثاني الخارج من المفرق باتجاه مغير السرحان ومركز جابر الحدودي.
وإذا عبرنا الطريق الثالث باتجاه الشمال الشرقي فإننا سنتجه إلى الزعتري وأم الجمال، ثم عمرة وعميرة ودير الكهف، مع ملاحظة أن ثمة طرقا فرعية تتفرع عن الزعتري لتقود إلى منطقة الباغجة في حين يتفرغ طريق من أم الجمال نحو منطقة الكوم الأحمر.
0 التعليقات:
إرسال تعليق